آخبار عاجل

رواية مايا  .. بقلم: محمد مصطفي الخياط .. الفصل السادس

26 - 06 - 2021 6:50 676

(فى الحب لا يملك أحد ترف الاختيار. محبة القلب لا تخضع لقوانين الهندسة التى سيطرت على تفكيرنا ولا لضوابط الطبيعة التراتبية المملة ولا قانون الجاذبية الذى حبسنا فيه نيوتن؛ قد تحب شخصاً ترفضه الدنيا بأسرها، لكنك وحدك تقبله ولا تستطيع التخلى عنه. باختصار، لا اختيار فى الحب)


بيروت، ربيع 2015
لم يكتنف تعرفى على مايا ما يشير إلى إمكانية تخطى علاقتنا مستوى الزمالة لاثنين يعملان بمقر الأمم المتحدة ببيروت. بحكم التخصص، تعمل هى في إدارة العلاقات العامة وأنا في إدارة التنمية المستدامة. من النادر أن نجتمع، ومع هذا اجتمعنا للإعداد لورشة عمل تُعقد في مراكش. طبقاً لمسئوليات العمل، تتولى الترتيبات اللوجستية؛ حجز فنادق، قاعة اجتماعات، مطبوعات، انتقالات، مزارات سياحية، وغيرها من تفاصيل. في حين يتبقى علىّْ تنفيذ ورشة العمل؛ اختيار المتحدثين، الأجندة، مراجعة الموضوعات ومحاورها، وما إلى ذلك من إجراءات.
عكست هيئة مايا -خلال الاجتماع- استغراقها وتركيزها الشديدين، تدور عيناها صامتة بين الحضور، وبعفوية شديدة تحرك أصابع يديها الواحد تلو الآخر فإذا ما انتهت من كفٍ ضمتها وقبضت عليها بالأخرى، فيما تتحرك شفتاها في صمت. تدون بعض الملاحظات بالإنجليزية حينًا، وحينًا آخر تميل على زميلتها التى ربما اكتفت بهز رأسها تعقيبًا أو همسًا ببضع كلمات جانبية، وفي أثناء ذلك، وتِبِعًا لحركتها، ينسدل شعرها على جانب وجهها ستارًا ناعمًا كثيفًا فترده بيدها ردًا جميلا.
تحتضن كوب القهوة بكفيها، تقربه من أنفها المستقيم من دون إفراط أو إقلال، تشمها مغمضة العينين ثم ترشف منه رشفات صغيرة وتضعه على الطاولة تبدو بعدها ريشة يحملها تيار هادئ رخيم فلا هي مشغولة إلى أين تحملها، ولا هو مشغول بثقلها.
ما إن انتهيت من حديثى حتى تفاعل الحضور وتداعت تعقيباتهم؛ يعقب هذا فيستطرد ذاك وهكذا دواليك ومايا على حالها، تتابع وتعد وتتمتم حتى انتهوا جميعًا، وعندما خفتت وتيرة الحديث وأوشك الاجتماع على نهايته، نظرت نحوها مبتسمًا وتساءلت؛
-    ما بدك تعقيب ؟
ثم أردفت،
-    عمر ما مسئولة علاقات عامة حضرت اجتماع وضلت ساكتة ! طب مين يتكلم !!

نظرت نحوي وقد أشرق وجهها بابتسامة وإن بدت عيناها حزينة، ثم تململت في كرسيها وقلبت بعض أوراق أمامها ثم قالت،
-    معك حق .. ما بخبي عليكن ... كثيرة التعقيبات ... من شان هيك ناطرة تخلص الملاحظات واتكلم، وقتها ما بيصير مجال لتعقيب آخر
ضحكت إحدي الحاضرت وقالت لها ضاحكة
-    يا لك من ماكرة ؟
-    ............
بدت في حديثها مرتبة وهادئة، يشوب لكنتها اللبنانية شيء من أعجمية فرنسية تضيف إلى جَرس كلماتها وقع جميل تستلطفه ولا تمله. تراوح عينيها بين ما دونته في أوراقها وبين وجوه المتحلقين حول الطاولة، تلتقط خيط ملاحظاتها ثم تغزل حسبما اتفق. تتقن التواصل مع من حولها، تنظر مباشرة في عين من تحدثه فتأسره إلى أن تنقل عينيها نحو شخص آخر، فيتحرر هذا، ويُأسر ذاك. وربما ما انفك رباط أسراها فتتركهم ينتظرون إيابها. 
بدت أشبه بنخلة في طولها، واستقامة عودها، مثمرة صيفًا وشتاءً، لا تعترف بتغير الفصول، صنعت قوانينها الخاصة بنفسها، قُدت بشرتها من رخام، وصُبغ شعرها من كبد ليل غاب قمره؛ فبدا فاحم السواد كثيفًا يتجاوز كتفيها بقليل، يبدو من ظهرها كغيمة أثقلها المطر وآن أوان هطول مائها، تشرأب نحوها أعناق البذور المبثوثة على امتدادات الأرض الشراقى متطلعة ليوم تنبت فيه براعم خضراء تنفصل وريقاتها على استحياء، ترفع هاماتها شيئًا فشيئا حتى تصبح أشجارًا تثقل فروعها الثمار، وينتظر عشاقها مواسم الحصاد. 
لا تعرف ملامحها ولا تقاسيمها وقع الزمن ولا خطواته الثقيلة؛ تلتزم ببرامج رياضية وغذائية لا تحيد عنها، وتتعامل مع جسمها باحترافية أنثى تدرك مكامن فتنتها؛ تضاريسها، تلالها وسهولها، جبالها وكثبانها، كافورها وحشائشها، يتأرجح على أغصان بساتينها البرتقال والرمان وتفوح من ثناياها مزيج زهور الليمون والنعناع مخلوطًا بالتمر حنة والريحان، كل شيء بقدر محسوب معلوم. لا زيادات ولا ترهلات، مشدود كوتر، مستقيم كعود بوص لدن كالإسفنج وصلب كالتفاح.
-    لا أسمح للزمن أن يتْرك بصمته علىّْ، أنا أترك بصمتى عليه
قالت لى بصوت بدا فيه تحد غير مألوف، كنا نشرب عصير البرتقال الطازج في مطعم )صخرة الشاطئ Bay Rock) المطل على بحر بيروت عصر أحد أيام السبت، كعادتنا في العطلات الأسبوعية. تمددت الشمس واسترخت على أرضية المطعم دون اكتراث بزبائنه؛ قليل منهم بيروتيون وكثير منهم سياح، وخاصة عرب الخليج، شباب وكهول، صبايا ونساء، يتحرك النُدُل بينهم بديناميكية وخلال غدوهم ورواحهم بطلبات الزبائن يمارسون هواياتهم الصامتة في قراءة الوجوه والاحتفاظ بتعقيباتهم لأنفسهم أو يهمسون بها لزملائهم. 
-    وكيف تتحدين الزمن  ؟!
أجبتها مبتسمًا وبين شفتى قصبة شرب (شاليموه) البرتقال الشفافة وقد صُبغت باللون الأصفر الداكن. لم أدر مصدر ابتسامتي، أإعجاب بقولها وشخصيتها، أم شفقة من سيدة مشاكسة لا ترى فرقًا بين تحدى الزمن وتحدى بنى البشر، ما أصعب ألا تعرف قدر غريمك؛ تستنزف قوتك وتخسر طموحك وتفقد ثقتك بنفسك. قف، فكر، قرر، ثم أَقْدِم؛ أربع نصائح لا تنساها قبل كل مغامرة.
نظرت نحوى وعلى شفتيها نصف ابتسامة وبينما تقلب العصير بقصبة الشرب استلت سيجارة من علبتها وأشعلتها على مهل، سقطت قُصاصة ورق من العلبة على الأرض فانحنت مضطربة والتقطتها وأعادتها مكانها، سحبت نفسًا عميقا من سيجارتها وابقتها بين إصبعى كفها اليمنى، أعادت فتح علبة سجائرها ونظرت فيها؛ أخرجت طرف القٌصاصة ثم أعادتها وأغلقت العلبة ثانية ثم اتكأت بمرفقها على الطاولة ونظرت في عيني وتساءلت،
-    ما الذى يملكه الزمن ليواجهنا ؟
بادلتها صامتاً نظرة بأخرى، سَحبت نفسًا عميقًا آخر من سيجارتها واستطردت ترسم بقصبة الشرب دائرة داخل الكوب فتتلون جدرانه الداخلية بلون البرتقال ويلتصق بها بعضًا من أليافه، ثم أشارت إلى كوب العصير وقالت بتحد،
-    الزمن إناء من زجاج، لا يترك بصماته على ما به، وإنما العكس. انظر ؟
وبينما كانت نافذة المطعم الزجاجية تحاول حبس شعاع الشمس، أردفت مُشيرةً بذقنها إلى ثُمالة العصير البائسة في قاع الكوب،
-    يترك العصير أثره على الكأس. انظر للكأس، قبل وبعد استخدامه، تعرف من يؤثر في الآخر. خلاصة رأيى، إذا تحكمنا في الأحداث التى تمر بنا، أو خففنا من أثرها، جاءت النتائج وفق ما نراه نحن، وليس طبقًا لما يخطط له الزمن.
كانت مايا تعيش وفق نظام محكم لا يكاد يتغير في تفاصيله اليومية، مواعيد العمل، عودتها للمنزل، قراءاتها، والأهم من ذلك كله وقت الرياضة، لا تقبل فيه عذرًا ويكاد يكون مقدسًا لديها.
تخرج مرتدية زيها الرياضي في الصباح الباكر إلى الكورنيش، في الشتاء لا يبين منها سوى خصلة شعر سوداء تمر عبر قلنسوة صوفية تُحكمها حول رأسها وتنسدل على رقبتها، وفى الصيف تكشف بلوزتها ذراعيها، تهرول حينا وتسعى حينا، وتجرى حينا آخر، تثبت في أذنيها سماعات تتصل بهاتفها، تتابع الإذاعة أو تسمع أغان غربية وعادة ما يكون المغني خوليو إجلاسيوس بأغانيه الفرنسية القديمة، تتنسم فيه الصوت الهادئ والخيال، على غير موعد تهمس ببعض مقاطع له، عادة ما تكون من أغنية " j'ai besoin de toi" (احتاج إليك).
أعقب ضاحكا بأن كثيرًا مما نهمس به أو نذكره بشكل عفوي يعبر عن صدق مكنوناتنا وأحاسيسنا؛ نسترجع عبارات من قاع الزمن؛ تعقيبا أو تعليقا عفويا على موقف ما، بيت شعر، مقطع أغنية، ربما سمعناه مرة واحدة ولم ننتبه إليه في حينه، بل ونسيناه، لكنه يفاجئنا بطزاجته وحيويته وملائمته لموقف ما فإذا به يقفز من رحم التجاهل والنسيان، عفيا، قويا.
تمارس رياضتها الصباحية لنحو الساعة، فإذا ما اقتربت العقارب من السابعة غادرت الكورنيش كأنها لا تعرفه ولا يعرفها. تستغرق المسافة إلى منزلها في شارع الحمرا حوالى سبع دقائق بالسيارة، تأخذ حمامًا ساخنًا ترتدى بعده ملابسها وتتناول قهوتها مع بعض فطائر الصباح، لتنطلق مرة أخرى إلى مكتبها. تقضى ما تقضى من وقت، وإن حرصت على تناول العشاء مع ابنتها التى تتكفل الخادمة الآسيوية برعايتها؛ توقظها في الصباح وتشرف على احتياجاتها حتى تستقل أتوبيس المدرسة الذى يصل في تمام السابعة. في هذا التوقيت، تكون مايا قد عادت من رياضتها الصباحية وانتظرت أمام الأتوبيس لتُقبل ابنتها، وفى المساء ترعى شئونها حتى تهجع إلى سريرها. وقتها محدود، لذا تستغل كل دقيقة فيه طبقًا لبرنامج مقدس. 
-    بودى لو اقتبست منك برنامج حياتك الصارم
كثيرًا ما داعبتها مُثنيا على التزامها بما تضعه من خطط لأوقاتها؛ من عمل وترفيه، فتضحك وتذكر تقصيرها في كثير من الأعمال، تتنهد من حين لآخر، يخرج نفَسها عميقًا شجيا يعكس شيء من اضطراب وقلق داخلى.
أمثال مايا سهل أن تعرف مكنون صدورهم لأنك متى نظرت في عيونهم نفذت إلى باطن نفوسهم وكأنها مرآة بلورية سحرية تكشف لك ما ظهر وما بطن، حتى وإن حاولت ستر الحقيقة هناك دائما ما يكشف عنها.
أينما حلت تستشعر وجودها وأثرها وتنبئك عنها بصماتها؛ عطرها المستقر حيث مرت، رنة صوتها حين تتحدث، خليط لكنتها الفرنسية بكلماتها العربية، أناقتها حين تتصدر المشهد، حضورها طاغ يصعب تجاوزه أو تجاهله لبعض الوقت. قلت لها مداعبا،
-    كثير يتهيأ لى إنك كل يوم عم تشترى لبس جديد ع الموضة، وترمي القديم
-    يا ألله!
ثم أردفت متسائلة دون أن تغيب معابثتها عن صوتها:
مين خَبَرَك إنى بَملُك محلات أزياء بيروت ! ؟، وإنى كثير غنية ! ؟
-    كيف بتفسري هاى الأناقة المفرطة ؟  
-    عم بتجامل!
-    أبدًا
-    ع بكره بتتعودنى عيونك
-    ما بعتقد !
-    تعرف، عم بخاف من بكره كثير !
-    ليه ؟
-    بخلاف ما بنريد، عم يبتدى الحب كبير لكنه بيصغر مع الزمن
-    ليه عم بتقولى هيك ؟
-    ده واقع!
-    كتير متشائمة ؟!
-    ما تغلب حالك بها السفسطة، المهم أننا سوا هلق (الآن)
-    .....
نظرتُ من خلف زجاج المطعم إلى صخرة الروشة وسرحت في كلماتها عن الزمن. بدت الصخرة كعابد ساجد منذ بدء الخليقة؛ يناجى خالقه فذاب في جزيئات الملكوت، صار جزءً من البحر وما شعر البحر بغربة. في البداية، حاصرته المياه فما شغلته عن سَبَحَاته، فلما مست قدميه وكفيه ذابت عِشقاً. من يؤثر في مَن، الصخرة تؤثر في الماء، أم الماء يؤثر في الصخرة !!.
للطبيعة لغة كونية واحدة يفهمها أولئك الموصولون بها، يقرأون همس الرياح وغضبها، صهد الشمس ودفئها، زقزقة العصافير، وهديل الحمام، ونقيق الضفادع، ينسجم كل شيء حولنا في إطار واحد، هكذا كان سانتياجو باولو كويللو في رائعته الخيميائى، منسجما مع الطبيعة يفهم إشاراتها ودلالاتها، تُرى هل تفهم الطبيعة ما بيني وبين مايا ؟؛ ربما.
أفقت من شرودى وقد قربت وجهها من وجهى، حتى صارت العيون على خط استقامة واحد قصير، نظرت في عينيها وابتسمتُ، فتَمتَمتْ
-    أحبك،
ابتسمتُ متسائلاً مُتعمدًا معابثتها،
-    هل تعرفين السبب ؟
أجابتنى رافعة حاجبيها الكثيفين لأعلى وقد مال رأسها لليمين قليلاً وزمت شفتيها،
-    فى الحب لا يملك أحد ترف الاختيار. محبة القلب لا تخضع لقوانين الهندسة التى سيطرت على تفكيرنا ولا لضوابط الطبيعة التراتبية المملة ولا قانون الجاذبية الذى حبسنا فيه نيوتن؛ قد تحب شخصاً ترفضه الدنيا بأسرها، لكنك وحدك تقبله ولا تستطيع التخلى عنه. باختصار، لا اختيار في الحب
يا إلهى، منحتنا كل شيء؛ ما سألناك وما لم نسأل؛ الخير والشر، الصواب والخطأ، ومنحتنا العقل كى نفكر ونختار أى طريق نسلك وأى نهاية نحب أن نكون، كل شيء مرتبط بالعقل إلا الحب مرتبط بالقلب، كل قراراتنا يأخذها العقل إلا قرار الحب؛ يصدره القلب، ديكتاتور لا يعترف بأحقية الآخرين مشاركته اتخاذ هذا القرار، متى تفتح برعم الحب في الأرض الشراقى طأطا العقل رأسه وتغافل عما يراه وما لا يراه؛ يعلم أن الأمر صار إلى غيره وأن كلمته لم تعد مسموعة فيتوارى صامتًا ريثما يصدر القلب حكمه النافذ دون طعن أو إعادة نظر، ألهذا السبب تمنى أحدب نوتردام أن يكون له قلب من حجر حتى لا يقع في الحب ولا يتأثر بجمال أزميرالدا ؟؛ ربما، كثيرون لا يملكون العقل لكنهم يملكون قلوبًا تحبُ وتعشقُ.
وحيدًا أتساءل، أين كانت هذه المرأة منذ أكثر من عشر سنوات ؟، أين كان موقعها في رحم الغيب ومتى نُسجت خلاياها ؟، وكيف صُنع جسدها على مهل ؟، كيف صبر عليها الزمان حتى تنضج على عودها ليخرجها من مكمنها أفروديت جديدة ؟، أم تُراها غافلت الزمان أيضًا حتى فوجئ بها أمامه فما عاد يدري ما يفعله معها.
ماذا لو كنا التقينا في زمن غير الزمن ومكان غير المكان ؟؛ هل كنا سنعيش ذات قصة الحب ؟، نفاجئ أنفسنا بأسئلة لا ندرى إجاباتها، الوصول لنفس النتائج مرهون بتحقق ذات الأسباب؛ دوافعها ودوافعي، ما أثر عليها وما أثر على، ما تعرضنا له من ضغوط وحرمان، من إحساس بالوحدة، من فراغ يسحقنا ليل نهار، حين تتحقق هذه الأسباب نحصل على نفس النتائج، نظرية تصلح للمعمل وتفقد قيمتها، بل وتلقى في سلة النفايات، مع بنى البشر؛ مشاعر، أحاسيس، حب، كُره، مودة، بغض، خليط تختلف نتائجه متى تغيرت نسبه ومعاييره.
رغم عملنا المشترك لسنوات طويلة إلا أننا لم نلتق من قبل، معتاد أن تقابل وجوه موظفين تظن أنهم يعملون فيها للمرة الأولى؛ مئات الموظفين، منهم من يقضى معظم وقته في رحلات عمل متنقلاً من بلد إلى آخر، ومن مهمة إلى أخرى، فلا يستقر ببيروت إلا لبعض الوقت؛ أقرب ما يكون عبورًا سريعًا؛ فلا يشعر به أحد ولا يكاد يذكره أحد.
هذا خلاف عادة يحرص عليها كثير من الموظفين بشكل لا إرادي؛ ألا وهو ندرة تجاوز الطابق الذى يضم مكاتبهم وكأن هناك سياج خفى يمنعهم تجاوز طوابق عملهم، فموظفو إدارة الموارد المائية لا يغادرون الطابق الثالث إلا للانصراف، وكذلك موظفو إدارة التنمية المستدامة، حيث أعمل، شبه محصورين في الطابق الرابع.
الوحيدون الذين يقطعون المبنى صعودًا وهبوطًا، طولاً وعرضًا؛ أولئك العاملون في الطابق الأول، إدارة العلاقات العامة، فبحكم العمل يختلطون بكافة الإدارات والأقسام، سواء لتنظيم اجتماعات، ورش عمل، أو مؤتمرات وغيرها.
فى أول لقاء بيننا بدا وجهها مألوفًا، لم تسعفنى الذاكرة في حينها، وتوقعت أننا ربما التقينا داخل مبنى المنظمة ذو السبعة طوابق، أو في أحد الاجتماعات الشهرية التى يدعو فيها الأمين العام كافة العاملين لمناقشة سبل الارتقاء بالمنظمة وأدائها.
كم كنت أمقت هذه الاجتماعات لاحتمالات مقابلة ألفونسو، مدير مايا، اللاتينى الأصل، كثيرًا ما أخبرتني أنه لا يتورع عن مغازلتها بكلمات مستترة رغم صدها له عدة مرات، أنفر منه متى أراه؛ يفور دمى ويصعد ساخنًا إلى رأسى، أتخيله يتلوي على الأرض من الألم من أثر ضربات موجعة أسددها له في وجهه وصدره، أضع فيها كل غِلّى وضيقى أقف إلى جواره بوجه غاضب وصدر يرتفع ويهبط من أثر الإنهاك والرغبة في المزيد من الانتقام، لكن مايا تخترق الزحام تمسك بساعدى وتنظر في عينى نظرة امتنان وتمضى فاتبعها دون اعتراض تاركًا إياه يتلوى وحيدًا، آه يا ألفونسو، كيف اعتذر منك بعد ما غادرت دون أن نلتقى، كنت في أشد الحاجة لصفحك عني.
شيء ما كان يدفعنى لرفع عينى تجاهها خلال لقائنا الأول، فتلتقى عيوننا على غير ترتيب؛ تحت ركام الصور تحاول صورة غير واضحة الملامح أن تطفو على السطح، كلما عاودت النظر ارتفع مستوى وضوح الصورة، وخفت ضبابيتها، النظرة أول لغة إيجابية تنبئنا ببدايات بزوغ فجر حب جديد؛ يتململ القلب في مكانه مُشجعًا العيون على معاودة النظر وإرسال المزيد من الرسائل الإيجابية، حين تقترن النظرة بابتسامة الطرف الآخر تتهلل أسارير الوجه ويصبح الطريق ممهدًا، سهلا ورحبًا، ليمضى بعد ذلك، بقوة الدفع الذاتى، من رحب إلى أرحب.
كعادتها تخذلنى ذاكرتى وقت احتاجها ووقت ألجأ إليها لائذًا مستغيثًا؛ تفتعل التنقيب في زواياها عن تفاصيل منسية، صغيرة كانت أو كبيرة، عادت كل نتائج نتف الذاكرة بخيباتها ترفرف في سماء اللا جديد تحت سقف النسيان، أشقى بعجزى وقهرى، يرن في فضاءات حيرتى السؤال، يردد الصدى خلفه في رجاء، متى شاهدت هذا الوجه ؟ وأين ؟ وهل مثل هذا الوجه يُنسى إن رأيته، ولو لمرة واحدة، يا لك من مسكين !!. سؤال لم أجد له إجابة حتى كان صباح اليوم التالي ورأيتها تمرق أمام مجلسنا على الكورنيش، فأوقفها للحظات، ونتفق على تناول القهوة سويًا، رغم تغير هيئتها عرفتها، وهل مثلها لا يُعرَفُ.
إلى لقاء في فصل جديد
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved